عندما تتوغل في شوارع صنعاء القديمة فإنك تشعر أنك خارج دائرة الزمن، وأن زحف المدنية بجدرانها الأسمنتية أمر مستعصٍ على ضفاف عراقة الماضي وشواطئ الحضارة كل شيء تراه يفجر فيك الأسئلة والدهشة إبتداءً من باب اليمن وحتى سوق الملح والجامع الكبير.. في صنعاء القديمة أنت مدعو إلى تذوق الجمال المعماري المطرز بالنقوش والقمريات، ليس ذلك فحسب فإن مذاق شهر رمضان في صنعاء القديمة له سحره الجذَّاب وطقوسه التي لا تنسى، حالة استنفار وطوارئ تعمان المكان في الأيام التي تسبق الشهر الكريم، الباعة والمشترون يأخذون أماكنهم في تناسق عجيب وكأنهم اتفقوا منذ زمن على ذلك ويستقبل أهالي صنعاء القديمة رمضان بالمدفعية وإطلاق النار ترحيباً بقدومه وكأنه في نظرهم رئيس دولة، يهتف الأطفال: أهلاً أهلاً يا رمضان.. شهر التوبة والغفران مرحبا شهر السعادة.. مرحباً شهر العبادة.. والشياطين الملاعين.. صفدوا يا خير عادة.. ويطل جبل نقم الضخم على ضواحي صنعاء من الجهة الشرقية ومن فوق قلعته يرى مدفع رمضان، حيث يحشى بالبارود والخرق البالية من القماش ويطلق عند الإشعار بثبوت الهلال، كما يطلق عند السحور وعند الإمساك ثلاث مرات والطريف أن رئيس الوزراء في عهد الإمام يحيى ملك اليمن قبل الثورة كان هو الذي يقوم بمهمة إطلاق المدفع تقديراً لمكانته في النفوس، وفي رمضان تعج مساجد صنعاء القديمة وهي تزيد عن 40 مسجداً بالمصلين وكأنها خلية نحل ويكثر البعض من الاعتكاف وتنظم حلقات الدرس والعلم في جماعات بعضها تدرس النحو وعلوم البيان والفقه والبعض الآخر يقرأ الأشعار والتفاسير.
أما عادات الطعام في رمضان فهي متنوعة خصوصاً في الفطور، فالقشمي "الفجل" والحلبة "الحامضة" و"الشفوت" أمور أساسية في الوجبة، وبعد هذه الأصناف تأتي "السلتة" وهي أكلة شعبية منتشرة في كل المنازل تقريباً.. ومنهم من يفضل البطاطس المفرومة والمخلوطة بالحوائج وبعض البهارات والزحاوق، والبعض الآخر قد يفضل فتة الخبز الممزوج بالعسل والسمن وتسمى المفحوسة، وأيضاً اللبن الرايب والسلطة وبعض التمور، وبعد العشاء يتناولون قهوة القشر وتكون كاساتها مبخزة بالمستكى السلطاني.
وفي وقت السهر يحلو السمر عند الصنعانيين بمضع نبات القات في مقايله المعروفة والتي تكون فرصة للنقاش في قضايا عامة ودينية وينشد المنشدون قصائد مطولة للشعراء القدامى في التصوف و الوجد وخلافه بينما المناظرات بين الشعراء الشعبيين وسط تصفيق الحضور وإشعالهم للمنافسة في الارتجال وسرعة الرد.
وكما يفرح الكبار برمضان يفرح الصبية والصغار أيضاً حيث يخرجون إلى الشوارع في الأمسيات يحملون فوانيسهم الصغيرة ولهم أهازيج معينة يطوفون على أبواب البيوت ينشدونها مثل: يا مسا جيت أمسي عندكم.. يا مسا كثر الله خيركم.. يا مسا جيت أمسي عندكم.. يا مسا زوجوني بنتكم، وعلى صاحب البيت أن يدفع مقابل هذه المساية عدة ريالات.
ويا ويله من يرفض الدفع إذ يصرخ الأطفال ويثيرون الفوضى والصخب حتى يجبر في النهاية على الدفع بالتي هي أحسن.
وجرت العادة أن يقذف الناس بالنقود من نوافذ البيوت إلى الأطفال الذين يجتمعون في مكان معين فيما بعد ويقتسمون الحصيلة بالتساوي، أما نشاط المرأة الصنعانية فيتم في أحد بيوت الصديقات أو الجارات وتحضر كل واحدة معها القهوة والشاي وبعض أصناف الكعك وتردد النساء الأناشيد الشعبية ويؤدين بعض الرقصات على إيقاع الدف، وفي النصف الأول من رمضان تنتشر ظاهرة "القدقدة" وهي تعني أن الناس كل يوم يقولون قد مضى منه كذا وفي النصف الثاني منه تنتشر ظاهرة "البقبقة" أي بقى منه كذا ولهذا يقولون أوله قدقدة وأخره بقبقة دلالة على تكرار هذه الألفاظ بين عامة الناس، وفي العشر الأواخر من رمضان يستعد الناس في صنعاء لاستقبال العيد وتكون الأسواق أكثر ازدحاماً والحركة التجارية أنشط، ويتصايح الأولاد في الشوارع مودع مودع يا رمضان وينتظرون بفارغ الصبر عسب العيد "أي العيدية" من الكبار حتى يشتروا الألعاب والهدايا.